دعاة الحوار مع النظام السوري في واشنطن:

يدور الحديث المتفائل اليوم في واشنطن عن إستلام الرئيس المنتخب باراك أوباما ونائبه المنتخب جو بايدن منصبهم في العشرين من كانون الثاني الشهر القادم. وقد إغتظت مراكز الأبحاث والدراسات الفكرية القائمة على صياغة السياسات والأيديولوجيات المختلفة كل على حسب توجهها وميولها الفكري بالحضور لمحاضرات وندوات ومؤتمرات فكرية وسياسية وثقافية التي تقيمها هذه المراكز شهرياً وبشكل دوري.
وطبعاً تقوم الأحزاب والتيارات والتجمعات والمؤسسات الصحافية والثقافية والإجتماعية المختلفة على حضور هذه الندوات والمؤتمرات والإستماع إلى آراء الخبراء والباحثين والمختصيين في هذه الشؤون. ومن هنا تصدر النصائح والتصورات المستقبلية لرسم سياسة الولايات المتحدة الجديدة وخاصة على الصعيد الخارجي.
وهؤلاء الخبراء والمحلليين السياسيين والمختصيين في شؤون الشرق الأوسط قادمون من خلفيات مختلفة فمنهم من خدم في السلك الديبلوماسي لسنوات طويلة، ومنهم الأكاديميين المختصيين في العلوم السياسية والتاريخية، ومنهم الكتاب والصحافيين. واليوم كثر الكلام واللغط والتكهنات والتوقعات على مايرى البعض من هؤلاء فرصة حقيقية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط على الأقل في المسار السوري لهذه المحادثات. فهناك المنظرون الذين يروا أن معاهدة سلام بين إسرائيل وسورية اليوم ستكون بمثابة المعجزة المنتظرة من المهدي الجديد "الطاغية الرشيد" الرئيس بشار الأسد. وطبعاً هناك عدة تحاليل مطروحة وراء منطق هذا الحوار المرتقب بين الولايات المتحدة وسوريا.
أولها أن النظام السوري قد أبدى بوادر حسنة تجاه دول الجوار وخاصة لبنان، فالبعض يظن أن سوريا لعبت دوراً إيجابياً في إتفاق الدوحة في أيار الماضي وإنهاء حالة التوتر التي حكمت شوارع بيروت لأكثر من سنة ونصف. وكأنهم يطمرون رؤوسهم في الرمل وينسوا أن من إفتعل تلك الأزمة في لبنان هو النظام السوري نفسه عبر حليفه الأول حزب الله! فقد أشار السفير الأمريكي السابق لإسرائيل مارتين إنديك في حديث له في مؤتمر نظمه معهد أسبن للدراسات في واشنطن مع منظمة النهضة اللبنانية منذ أيام أنه "إذا إستطاع حزب الله وحلفائه أن يسيطروا على لبنان في الإنتخابات البرلمانية القادمة، فقد يكون دعم الولايات المتحدة للبنان في خطر"!! عفواً ياسيادة السفير ولكن عن أي دعم أمريكي تتكلم؟ وأي تعريف للخطر تنوه به؟ والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو أليس مشروع الديمقراطية في المنطقة كله في خطر؟ هل هناك من عاقل اليوم لايعرف بأن إيران عبر حلفائها في العراق ولبنان وفلسطين تمتلك نفوذاً عسكرياً واسعاً عبر ميلشياتها الدينية وأحزابها المسلحة والمدعومة منها في المال والعتاد وتفرض هيمنتها على ساحة المعركة في جميع تلك الأقطار؟ أم أن ماحصل في السابع من أيار الماضي من إجتياح مقاتلين حزب الله لشوارع بيروت و تراجع قوى 14 أذار في وجه ذلك الإغتصاب المسلح قد غاب عن ذاكرة السيد السفير أنديك؟ أليس نفوذ حزب الله اليوم في لبنان أقوى مماكان عليه قبل إتفاقية الدوحة؟ ألم تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي بينما كان مرتزقة حزب الله يفتكون في ديمقراطية لبنان ويعززون نفوذ سوريا فيها؟ ولكن على مايبدو أن "دعاة الإستقرار فوق كل شيء" يسرحون ويمرحون اليوم في مؤسسات الفكر والدراسات في واشنطن ويروجون لصفقة أخرى تُسلمَ زمام الأمور في المنطقة للديكتاتوريات والثيوقراطيات التي طالما كانت المسبب الأول والأخير في نمو التعصب والتطرف والأصولية الدينية في المنطقة.
ولكننا نرى اليوم الكثير من المنظريين السياسيين في واشنطن يصطادوا في الماء العكر وينادوا بفتح الحوار مع النظام السوري ظناً منهم أن الوقت مناسباً لفصل هذا النظام عن إرتباطه الإستيراتيجي مع إيران وإقناعه بوقف تسليح حزب الله عبر الحدود السورية وإغلاق مكاتب المنظمات الفلسطينية المعادية لسياسية الولايات المتحدة وإسرائيل في دمشق، وكأن النظام نفسه لايعيش ويتنفس من وراء هذا العداء الأيديولوجي، وبالمقابل مشاركة الولايات المتحدة في محادثات السلام بين سوريا وإسرائيل وإحراز إتفاقية ترجع له الجولان المحتل. وطبعاً هؤلاء الأشخاص في واشنطن ينظرون إلى النظام السوري نظرة مختلفة تماماً اليوم عما كانوا ينظرون إليه منذ أعوام ماضية قليلة و كانوا يصفونه وقتها بأنه مآوى الإرهاب والتطرف، ولكنهم يقولون اليوم بأنه قد أبدى إستعداده للتسوية عبر قبوله لتبادل السفارات بينه وبين لبنان وترسيم الحدود، مع أن ذلك لم يحصل حتى اليوم.
ومايقلق دعاة الديمقراطية والتقدمية في المنطقة اليوم هو المؤشرات التي بدأت بالظهور في تعامل الغرب مع سوريا. فبعد إنفتاح العلاقات الفرنسية السورية عبر الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي، وظهور مؤشرات أولية نحو وصول البرلمان الأوربي إلى تفاهم مبدئي على إتفاقية التبادل التجاري الأوربية مع سوريا، يرى البعض أن ذلك يفتح الطريق أمام الولايات المتحدة وأوربا إلى تفعيل محادثات السلام بين سوريا وإسرائيل، ويمهد الأجواء لإرجاع السفير الأمريكي إلى دمشق، وطبعاً سيكون ذلك العمل بمثابة مقدمة لبيع مشروع دعم الديمقراطية نهائياً في المنطقة وعلى رأسه إعادة الوصاية والنفوذ السوري على لبنان.
المعركة اليوم في الشرق الأوسط معركة فاصلة بين الرجعية والحداثة، المدنية والبربرية، الحرية والقمع، الديمقراطية والديكتاتورية، وماتعانيه القوى التقدمية اليوم من تراجع في ماتملكه من قوى فاعلة على الأرض يتناسب طرداً مع الفكر المطروح اليوم في واشنطن من قبل دعاة الإستقرار والسلم على حساب حرية شعوب المنطقة وآمالها في التخلص من الديكتاتوريات والشمولية التي طالما فتكت وتفتك يومياً بالمواطن العربي.
الحل الوحيد لمواجهة هذا التراجع للقوى الفاعلة على الأرض هو تحالف القوى التقدمية في المنطقة مع بعضها البعض. لبنان اليوم يعاني من مخاض عسير، فهو لم يكن منذ إستقلاله حراً وخالياً من نفوذ دول الجوار ولم يستطع في يوم من الأيام من أن يبسط سيطرته الكاملة على جميع أنحاء القطر ومن أن يتجنب إنتهاكات سيادة أراضيه من هؤلاء الذين جعلوا منه ساحة للمعارك الإقليمية. والغريب في الأمر أن قوى 14 أذار اليوم رغم وضعها المحزن على الأرض تخاف من أن تظهر علناً أنها تدعم ولو معنوياً وخطابياً فقط قوى المعارضة السورية، بينما يتبجح النظام السوري بدعمه لقوى المعارضة اللبنانية بكل أطيافها وأشكالها بالمال والسلاح وعبر إعلامه الرسمي ويعتبرهذا بمثابة فخر وإعتزاز في دعم المقاومة الوطنية في لبنان !! وكأن النظام السوري هو الذي يمتلك الكلمة الأولى والأخيرة فيما ما تقرر الحكومة اللبنانية في أن تدخل فيه من تحالف مع أي جهة ترى فيها مصلحتها الوطنية.
مع أنهم شددوا على حماية ديمقراطية لبنان وإستقلاله وأشاروا إلى أنه لن يكون هناك مساومة في قضية المحكمة الدولية في إغتيال الرئيس رفيق الحريري وأن تلك المحكمة مستمرة ومستقلة في أمرها ولكن من الغريب أن ينسى أصحاب الدعوة إلى الحوار في واشنطن مع النظام السوري المافيوياي المتغطرس لايزال في موضع الشك في أن يكون هو المتهم الأول في هذه القضية، وإذا أدانت تلك المحكمة رأس النظام السوري في هذه القضية فكيف سيكون موقفهم من هذا النظام حينها؟ دعاة الحوار في الولايات المتحدة مع النظام السوري اليوم همهم الإستقرار والسلم في المنطقة وضمانة أمن إسرائيل بأي شكل أو ثمن، وهم يعملون على صياغة الصورة الوردية لسياسة الإدارة القادمة للرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما، آملون أن يؤدي هذا العمل إلى تعينهم في منصب جديد في هذه الإدارة أو مركز في إحدى وزاراتها الفيدرالية الكبيرة. مآرب شخصية، ومطامع فردية تلبس قناع السلم والأمن والمصالح الوطنية الأمريكية. ولكننا إذا أردنا أن نقرأ مابين السطور في إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما وتعينه صقوراً جدد مثل السيناتور هيلاري كلينتون لمنصب وزيرة الخارجية ورحيم إيمانويل كبيراً لموظفي البيت الأبيض، نرى أن ماينشده دعاة الحوار في الولايات المتحدة لايعني أبداً التنازل عن مطالب الإدارة الأمريكية السابقة من النظام السوري، وهذا مايجعل "الطاغية الرشيد" في دمشق اليوم أكثر قلقاً على ماكان يراهن عليه في إنفتاح مرتقب من الإدارة الأمريكية الجديدة مع نظامه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الديمقراطية بين براثن الديبلوماسية العربية والسلطوية

Syria enters into the Islamic Resistance Den

قراءة موضوعية لموقع الناقد