كلنا ثروة

بعد حوالي أكثر من خمس وعشرون عاماً صادفني الحظ بلقاء جاري العزيز من دمشق عمار عبد الحميد المدير العام لمؤسسة "ثروة"، المنظمة العربية والدولية المهتمة في شؤون حقوق الإنسان والأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية في العالم العربي.

سعدت جداً في اللقاء الحميم، وحملتني الأفكار إلى الأيام الماضية عندما كنت على وشك السفر من دمشق للذهاب إلى الولايات المتحدة بعد أن أتممت دراستي الثانوية، فقد كنت أعرف عمار منذ ذلك الوقت وهو مازال طالباً في المرحلة الإعدادية من دراسته و لم أكن على إستعداد للمفاجأة الرائعة لرؤية عمار وقد وفقه الله في تكوين عائلته الجميلة والمؤلفة من زوجته الكريمة والعزيزة خولة وأولاده ذو الجمال الفائق، مهند و لولو. لكن سعادتي لم تتوقف عند لقائه هو والعائلة الكريمة، فقد كنت أكثر شوقاً لسماع أخر الأخبار عن نشاط مؤسسة "ثروة" الحالي والذي كان عمار في صدد إعداده وقد كان لتوه عائداً من مسرح العمل الوطني الذي أخذه مع مجموعة مشرفة من أعضاء المعارضة الوطنية السورية لمدينة نيويورك أمام مبنى الأمم المتحدة ليواجه برد شتاء قارص، بعد أن أقام حملة إعتصام مع النائب السابق في البرلمان السوري مأمون الحمصي وعدد من أفراد المعارضة السورية في الخارج، تضامناً مع سجناء الرأي والضمير في سورية وعلى رأسهم أعضاء إعلان دمشق الذين يقبعون في أقبية سجون الرئيس بشار الأسد.

جلست أستمع لعمار وخولة وهم يتلون على مسامعي رحلتهم المؤلمة في سياق نضالهم السلمي ضد النظام الإستخباراتي السوري والذي إمتد أكثر من خمسة عشر عاماً منذ عودة عمار إلى سوريا بعد إتمام دراسته الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية. أحسست أن زيارتي لم تكن في الوقت المناسب فقد صادفني الحظ أن ألتقي جاري يوم تسلمه أحد الأخبار السيئة من الوطن الحبيب عن متابعة الضغوط والإستفزازات الأمنية اليومية لما تبقى له من أفراد العائلة في سوريا. خطوات أصبحت روتينية في سياق الأعمال التعسفية والإجرامية المتبعة من قبل دولة فقدت كل موازين القانون والعدالة وأُختُطِفتْ من قِبل عائلة تحتقر أبناء وطنها وتخاف على نفسها من شعوبها.

تدفقت مشاعر الحزن في قلبي وأحسست أنني مقصراً في حق وطني وأنني بعد ثمانية وعشرون عاماً في الغربة فقدت كل ماتعلمت من والدي أطال الله عمره، من الإخلاص والحب لسوريا، فقد أرجعني لقاء عمار لذكريات طفولتي التي كنت قد إلتهمت فيها معاني التضحية والتفاني للوطن الذي ترعرت في أزقته وحاراته لسنوات طويلة حتى رحيلي عنه في ربوع شبابي. شعرت بالخجل لإهمالي الطويل لقضية وطنية كانت ومازالت المحور التي يعيشها عمار وعائلته يومياً منذ سنين بينما كنت أعيش حياة تنعم في الهدوء والسلام بعيداً عن قبضة الجلاد الأمني والحاكم المستبد. موجات من الندم والحزن أغرقت أفكاري وإمتصتني في دوامة من الغضب والكراهية لنظام حاكم مافياوي شرد ألاف من أمثال عمارعن وطنهم وقتل ماطالته يده المغتصبة من أبناء الوطن الأحرار وزج ماتبقى منهم في زنزانات باردة ومظلمة كانت لبعضهم أخر ما عرفت أعينهم في حياتهم.

لكنني بينما كنت غارقاً في تلك الحالة من الندم والهذيان الفكري سمعت صوتاً مليئاً بالأمل والمستقبل يحدثني عن نواياه المستقبلية في مسيرة حياته الخاصة، كان ذلك صوت لولو، إبنة عمار الصبية الشابة، التي أخبرتني عن نواياها في التخصص في دراساتها الجامعية في مجال العلوم السياسية. إنتعش قلبي وردت له روحه، فقد عرفت أنذاك أن مسيرة عمار لم تكن هباء و أن عمله في رفع راية الحق والعدالة والكرامة الإنسانية في سوريا لن يضيع في الهواء، وأن هناك أمل في شباب وشابات "ثروة" أن ينهضوا في الأيام القادمة ليصرخوا بأعلى أصواتهم كفانا ذُلاً و قهراً، كفانا عذاباً وخوفاً، كفانا إستبداداً وقمعاً فقد أن الأوان لكسر جدار الخوف و التعبير عن إراداتنا وطموحاتنا بالعيش الكريم والحياة الأفضل في ظل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية في دولة المواطن التي تحفظ كرامتنا وتحمي حقوقنا من كل طاغية أو مستبد فنحن الثروة التي تبني البلاد ونحن العماد، نحن أبناء الوطن وحماة الديار، نحن أمال الشعب ونحن إرادته، نحن ربيع دمشق ونحن أزهاره، نحن هضاب الجولان وشواطئ الإسكندرون، نحن العزة والكرامة والحرية، ونحن أبناء سوريا.

هنيئاً لك ياعمارعلى عملك الوطني المشرف وهنيئاً لك على مشوارك النضالي ضد الديكتاتورية والإستبداد في سوريا، ونحن ولو كنا متأخرين في الإنضمام لك في مسيرتك النبيلة، نعاهدك على رفع راية الحق والعدالة معك في كل منعطف وكل محطة تقف عندها ونعاهدك أن نكون من السباقين في إعلاء كلمة العدالة والحرية والكرامة الإنسانية التي تبنتها مؤسسة ثروة، فنحن اليوم أصبحنا كلنا ثروة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الديمقراطية بين براثن الديبلوماسية العربية والسلطوية

Syria enters into the Islamic Resistance Den

قراءة موضوعية لموقع الناقد