أمريكا تجدد ثورة الأمل والفكر والحرية

ترددت قبل كتابة هذا المقال ليومين وأنا أفكر كيف يمكن أن أضع أفكاري وأحاسيسي في سطور قليلة وكلمات معبرة عما يدور في أعماقي من حزن وأسى، فرح وإحباط، وسعادة ويأس، فقد تدفقت تلك المشاعر إلى قلبي وعقلي في آن واحد وأغرقت عيناي في دموع إستبقت الكلمة من فمي وأعاقت خروج صوتي عبر حنجرتي بعد أن حرقها تدفق ذلك الدمع الساخن.
كل ذلك حصل في غضون دقائق كانت قد غيرت العالم وأنتجت أمل جديد ساطع مشع، صنيعة شعب حي متفائل تربطه فكرة إسمها أمريكا كانت قد خُلقتْ منذ أكثر من قرنين من الزمن لتصبح تلك المنارة المضيئة على شاطئ العالم تنادي مراكبه وسفنه وتوجهها نحو مرآب السلام والأمل، الحرية والحياة، و الإيمان بقدرة الإنسان على صنع المستحيل.
الإنتخابات الأمريكية التي جرت في الرابع من تشرين الثاني والتي حقق فيها السيناتور الديمقراطي الأسود باراك أوباما إنتصاراً ساحقاً ضد خصمه الجمهوري السيناتور جون ماكين لها وقفة مع التاريخ، وستُدرج في كتب التاريخ الأمريكية والعالمية لإنتخاب الأغلبية رجل الأقلية، وسيعرف العالم أجمع أن الولايات المتحدة الأمريكية إستطاعت بعد أكثر من قرن ونصف من التفرقة العنصرية، وبعد حرب أهلية دموية كان من أحد أسبابها إنهاء قانون العبودية ودامت أكثر من خمس سنوات، و حركة حقوق مدنية قادها القسيس الأسود مارتين لوثر كينغ، و محاكم قضائية لإنهاء التفرقة العنصرية في المدارس الأمريكية، إستطاعت هذه الإنتخابات أخيراً أن تتوج تلك الجهود الجبارة في سياق الحراك الديمقراطي السلمي والحركات المدنية وأن تضع أول رئيس أسود في البيت الأبيض ليقود الولايات المتحدة والعالم أجمع.
في جلسة مع صديق سوري مقيم هنا في الولايات المتحدة قال لي فيها أنه لايستطيع أن يعبر عن مدى حزنه اليوم بعد أن شاهد نجاح السيناتور باراك أوباما في هذه الإنتخابات، وعندما سألته عن أسباب ذلك الحزن، قال أنه وصل إلى قناعة تامة أن العرب اليوم لايملكون القدرة العقلية الجماعية اليوم على النهوض في شعوبهم من الرجعية والتخلف إلى الحداثة والمدنية، وأنه عندما إستمع إلى خطاب السيناتور باراك أوباما في ليلة إعلان النتائج الإنتخابية تأكد من ذلك بعد أن تذكر مافعلت رئاسة الوزراء السورية قبل أيام بإصدار قرار بإغلاق المدرسة الأمريكية والمركز الثقافي الأمريكي في دمشق رداً على الغارة الأمريكية على قرية السكرية في البوكمال. وعندما أجبته أنه ليس من العدل منه أن يحمل الشعب السوري نتائج قرار تعسفي صدرعن نظام ديكتاتوري، فأجابني في الحديث النبوي "وكما تكونوا يولى عليكم".
تذكرت ماصرح به وزير الثقافة السوري الدكتور رياض نعسان آغا منذ أيام عبر الصحافة السورية فقال " كنا ننتظر من الولايات المتحدة إن تقدم لنا ثقافة راقية.. أن تقدم لنا علما ومعرفة وتكنولوجيا أما أن تقدم لنا جثث أبنائنا في الشوارع فهم لا يريدون الحوار فعلام نبقي إذا على مراكز ثقافية لا تملك أسسا معرفية سوى إنها تنشر الإرهاب الدولي المنظم."
طبعاً فهم ينظرون للثقافة الأمريكية عبر جيوشها الجبارة وعتادها المتين. وزراء الرئيس الوارث لايملكون القدرة على التمييز بين الثقافة والعسكرتاريا، ولايفرقون بين العلم والمعرفة والمؤسسة العسكرية، فهذه المفاهيم الحضارية غريبة المصدر والمنشأ فهم الذين جاءوا إلى الحكم عبر الدبابة والمدفع وهم أبناء الحزب الواحد "قائد السلطة والمجتمع"، ثقافتهم شمولية إقصائية لاتفرق بين الحاكم والمحكوم، الشعب والسلطة، الأمر والمأمور، فأمريكا هي العدو اللدود الذي يسعى عبر "الإرهاب الدولي المنظم" على نشر ثقافة حرية الفرد وكرامة المواطن وديمقراطية الحكم في شوراع دمشق عبر المدرسة الأمريكية ومركزها الثقافي وهذا هو الإرهاب بعينه للسلطة الغاشمة في دمشق. فهذه هي الأفكار التي يخشى وزراء التملق والمزاودة على نشرها عبر المؤسسات التربوية الأمريكية، وهذا هو الخطر الأكبر على مناصبهم وكراسيهم، فهم يعرفون مدى ضعفهم وصغرهم ولايمكنهم اليوم بأن يردوا على هذا الإعتداء و مواجهة دولة عظمى كالولايات المتحدة إلا بإغلاق مركزها الثقافي ومدرستها، فهم أصحاب الوصاية على المواطن السوري وهم الذين يقررون مايقرأ ويسمع ويرى وهم حماة الديار والوطن الذين يسهرون على أمنه وإستقراره من الشيطان الأكبر أمريكا وحليفها الصهيوني إسرائيل.
عرفت ماقصد به صديقي السوري عندما أشار إلى حزنه، فبعد أكثر من أربعة عقود من الزمن في سوريا تحت حكم الطوارئ اليوم، وبعد أن طغى الفكر الشمولي العائلي والطائفي على الحكم فيها، وبعد أن اُقصي المواطن السوري عن الحراك الديمقراطي السلمي بجميع أشكاله وأطيافه وخلت ساحة الصراع الفكري والسياسي في الحكم من أصحاب الضمير و الوطنية، كيف يمكن للمواطن السوري أن يرى مايراه صديقي في إنتخاب السيناتور الأسود باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية؟
تقول القصيدة الشهيرة "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر" ، تذكرت ذلك القصيدة عندما سمعت الرئيس الأمريكي
المنتخب باراك أوباما في خطاب القبول في تلك الليلة التاريخية الأمريكية، وأصابني التفاؤل والأمل من جديد في ماقدمه الشعب الأمريكي للعالم من مثال في إمكانية الشعوب على صنع المستحيل، وتذكرت وطني الحبيب سوريا، وعرفت أن هناك الملايين من الشباب السوري اليوم الذي يشاهد ذلك الحدث التاريخي عبر شاشات التلفزيون والمحطات الفضائية، ولابد من أن ينتابهم نفس المشاعر والأحاسيس التي إنتابتني في تلك اللحظة، فهم مثلي أبناء سوريا وقلبها النابض وحبهم للوطن والأرض يفوق الوصف والخيال، وعرفت حينها أن ثورة الحياة والتجدد والأمل والفكر والحرية التي نشهدها اليوم عبر الإنتخابات الأمريكية هي قادمة لامحالة إلى دمشق وحلب وحمص واللاذقية وجميع أنحاء سوريا في شرقها وغربها شمالها وجنوبها، ليعرف الطاغية فيها يوماً كان مكتوبا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الديمقراطية بين براثن الديبلوماسية العربية والسلطوية

Syria enters into the Islamic Resistance Den

قراءة موضوعية لموقع الناقد