في لمّ شمل العائلة السورية

لن نستطيع ردم الهوة المتسعة اليوم بين معارض ومؤيد في سوريا إلا بالعودة إلى إصلاح النفس ولمّ شمل الوحدة الأولى في المجتمع وهي "العائلة". أصبحت سوريا مثال يحتذى به في تمزق النسيج الاجتماعي الناتج عن تجاذبات السياسة لأقطاب متعاكسة ومتضاربة. وأصبح الأخ ضد أخيه والأب ضد ابنه وابن العم ضد أولاد عمومه وهكذا حتى تكسرت الروابط العائلية وتفاقمت الشروخ الاجتماعية وكبرت لتبتلع ما تبقى من هذا المجتمع الممزق والمنكسر في جميع أركانه وكياناته.
كيف لنا أن نصلح هذا المجتمع وننقذه من طريقه نحو الاندثار الحتمي، والانحدار في غياهب القبلية والعشائرية التي تطحن الفردية الشخصية وتُصهرها في بوتقة العقل الجمعي والتطرف الطائفي الذي يعصف اليوم في سوريا والمنطقة بأكملها؟ وكيف لنا أن نستغل هذا العمل في بناء تعزيز احترام الحريات والآراء الشخصية وتحرير المجتمع من عبودية تلك المفاهيم البطرياركية التي تكبل أفراد العائلة الواحدة وتدفع الفرد نحو التطابق والانصياع لقوانين وضوابط العادات والتقاليد، وتحدّ من الإبداع الفكري والخروج عن المألوف اللذان يشكلان القاعدة الأساسية في بناء المجتمع الصحي والمتمدن في الفكر والعمل.
على الصعيد الشخصي، لم أكن متعصباً لفكرة أو أيديولوجية في عمري، ولم أتحزب لأي فكر أو عقيدة أو رأي منذ نعومة أظفاري وعبر مراحل حياتي الثقافية. كنت مخلصاً لمبدأ واحد فقط، أن الحقيقة دائماً نسبية ومتغيرة، وأن الإنسان، عقائدياً وفكرياً وأيديولوجياً، ما هو إلا نتاج التأثير المباشر عليه من خلال خبراته الحياتية في محيطه الاجتماعي والثقافي والعقائدي المباشر، وأن النظم السياسية ماهي إلا تعبير عن رؤى مختلفة لأصحابها ومفكريها وهي أبعد ما تكون عن الكاملة والشاملة في عالمنا. والبوصلة التي قادت مسيرتي في هذه الحياة هي الإيمان بقدسية الروح الإنسانية والحياة التي لا تعلو عليها قداسة. من هذا المنطلق آمنت بأن الحرية الشخصية هي حجر الأساس في تبني أي فكر كان وأي عقيدة كانت، وأن من يسلب الإنسان حريته الشخصية في الرأي والعقيدة هو عدو الإنسانية. هذا المبدأ لا يمكن أن يختلف فيه طرفين، إن كانت النوايا صادقة والجدل لا يشوبه أي تأثير أو ضغوط داخلية أو خارجية تهدد سلامة المتحدث في هذا الشأن.
يقولون بأن السياسة هي فنّ الممكن، وهكذا يبقى الحديث فيها أيضاً ممكناً من دون عواطف، لأنها في رأيي أبعد ما تكون عن الأخلاق والمثاليات. السياسي هو المؤمن والمدافع عن منظومة فكرية أو نظام سياسي اقتصادي فيه منفعة الآخرين والشأن العام، وهذه المنظومة يمكن أيضاً أن تكون خاطئة أو على صواب، ويمكن أن تصلح نظرياً وتفشل عملياً في قيادة شعوب ومجتمعات. وبهذا يبقى الحديث في السياسة مفتوح ومتاح للجميع وحق ضروري من حقوق الإنسان في التعبير عن آرائه وأفكاره من دون خوف من رقيب أو رادع غير الضمير الإنساني. حتى هنا لا يمكن لكلا الطرفين في المعارضة والموالاة إلا أن يكونوا على توافق في هذا الطرح.
في سوريا أختلط الحديث في الشأن العام بالخاص والمنفعة الشخصية بالمنفعة العامة، وتحارب الطرفين على اجتذاب العدد الأكبر من المؤيدين والمعارضين نحو قطبين متضادين في الرؤية والفكر السياسي، وأصبح العنف سيد الموقف، والقتل والتدمير والإبادة للآخر هو الهدف، لم يعد الإنسان يلعب دوراً في أي مخيم منهم، وأصبح إلغاء الطرف الآخر، وشيطنة العدو وتجريده من إنسانيته ومحوه كلياً من المعادلة أهم من الإنسان والوطن والأرض والحياة. سقطنا في دوامة من العنف والعنف المضاد والإرهاب والدم والدمار حتى وصلنا إلى القاع المحرق للإنسان السوري والروح الإنسانية التي أصبحت أول وآخر ضحية في هذه المأساة.
الخوف من الآخر المختلف هو العامل المشترك اليوم عند الطرفين، أحدهما يظن بأن التخلي عن الحكم أو المشاركة الحقيقة فيه هو عبارة عن عملية انتحارية لكيانه ووجوده في سوريا، والآخر يُراهن على تعداد الأغلبية السكانية وأحقيتها في التمثيل السياسي والوصول إلى السلطة. وسيبقى الجانبين في صراع مدمر لن ينتهي إلا بالتوافق والجلوس على طاولة المفاوضات لتحقيق العدالة الانتقالية الضامنة لاستمرارية أي اتفاق ناتج عن هذه المحادثات.
علينا إيجاد أرضية مشتركة للتعايش بين الطرفين بأي شكل من الأشكال وإلا لن تنتهي هذه الحرب إلا بإبادة طرف لطرف آخر، جميع السوريين يرفضون الإرهاب بجميع أشكاله وألوانه وأوله إرهاب الدولة وأجهزة الأمن والجيش للمواطنين السوريين، ومن ثم إرهاب الجماعات والفصائل المسلحة وخاصة الإسلامية المتطرفة منها أمثال أحرار الشام، جيش الإسلام، صقور الشام، أجناد الشام، وجبهة فتح الشام (النصرة سابقاً) والمرتبطة بمنظمة عالمية إرهابية مثل القاعدة، وطبعاً أكبرهم وحشية وهمجية الدولة الإسلامية الممثلة بداعش.
في العودة إلى الفصل بين العام والخاص علينا رؤية هذا الصراع على الصعيد الشخصي أولاً وبعده العام. لنفصل بين ولائنا لمعتقداتنا وآرائنا الشخصية في الشأن العام وبين ولائنا لعائلاتنا. أن تؤمن اليوم برأي مختلف عن أخوك أو أبوك أو أبناء عمك للأوضاع الراهنة في سوريا لا يعني هذا أنكم أصبحتم أعداء وخصوم، هناك عوامل مشتركة في هذا الصراع يؤمن بها الطرفين ولا يمكن الاختلاف عليها، جميعنا ضد العنف والقتل والاعتقال والتعذيب والإجرام والإبادة الجماعية، وجميعنا موافق على وقف نزيف الدم، وجميعنا، إن افترضنا انطلاقنا من مبدأ احترام قدسية الحياة والروح الإنسانية، لابد أن يكون على توافق في المطالبة بمحاسبة من تلطخت أياديه بالدم، وإقامة العدالة الانتقالية واحترام القانون واستقلالية القضاء والحفاظ على مؤسسات الدولة ما أمكن وإقامة حكومة وحدة انتقالية لإنقاذ سوريا من الانزلاق نحو التقسيم المحتم إن استمرت هذه الحرب الطائفية المحرقة.
أفهم تماماً كم هو من الصعب على من فقد والده أو والدته أو أخوه أو أخته أو أولاد عمه أو عائلته بالكامل وأصبح شريداً أو لاجئاً ببلد الجوار أن يقبل بهذا الطرح، ولكن لنقف لحظة واحدة مع العقل ونبحث عن المخرج؟ ما هو؟ وإلى أين تتجه سوريا؟
من السهل علينا أن نرى أبيض وأسود فقط ونتجاهل الأطياف في الألوان الأخرى، ومن الأسهل تصنيف الأفراد والبشر من خلال معادلة صغيرة إما معنا أو ضدنا، وبهذا نبتعد عن التعقيد وتبقى حياتنا مبسطة وسهلة، ونرى جميع الأشخاص حتى المقربين منا عبر هذا النفق والمنظور الضيق في الرؤية والتصنيف للآخرين. يتمنى الإنسان أن تكون الحياة بهذه البساطة والسهولة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والمادية، ولكن الواقع مختلف وضوء الشمس الطبيعي مؤلف من ألوان قوس القزح، وفيه من الأطياف المتعددة ومن الطبيعي أن يكون أيضاً هناك اختلاف في مجال الآراء والمعتقدات، وكما تعودنا على أن نتعامل مع الأفراد كلُّ حسب طبعه وطبيعته، هكذا هي الحياة فيها الرأي والرأي الآخر، وعلينا أن نبحث دائماً عن المساحات المشتركة حتى نبني بدل أن نهدم، ونزرع الأمل بدل اليأس.
يقول المعلم مهاتماس غاندي أن مبدأ العين بالعين "يجعل من العالم بأجمعه أعمى". لا تدعوا الكراهية تتسرب إلى قلوبكم، علينا أن نبدأ بلمّ شمل العائلة السورية أولاً، تصالحوا مع أنفسكم وأخواتكم وإخوانكم وجيرانكم ومحيطكم المباشر، أعطوا فرصة للتسامح والتآخي والتضامن على الصعيد الشخصي والعائلي، وستزرعون بذور المحبة الأولى في تلك الأرض الطاهرة، مهد الحضارات والأنبياء، وبهذا نبدأ طريق التصالح والتسامح بين الشعب السوري وأطيافه ووضع حجر الأساس في إعادة إعمار هذا البلد المدّمر اليوم. إن لم نبدأ بأنفسنا سنخسر سوريا ونخسر الإنسان السوري وأنفسنا معاً.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سوريا الأسد... ممانعة أم مصافحة؟

The Israeli/Syrian negotiations and the lack of courage

Follow up on "Academic Terrorism"